لو تركها لدارت إلى يوم القيامة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلــى الله عليه وسلــم قـــال:
( أصاب رجلاً حاجة ، فخرج إلى البرّية ، فقالت امرأته : اللهم ارزقنــا
ما نعتجن وما نختبز ، فجاء الرجل والجفـنة ملأى عجيناً ، وفـي التنــور
الشواء ، والرحى تطحن ، فقال : من أين هذا ؟ قالت : من رزق الله ،
فكنس ما حول الرحى ) ، وقــال عليه الصلاة والسلام
لو تــركــها
لدارت أو طحنت إلى يوم القيامة ) رواه الطبراني في الأوسط .
معاني المفردات أصاب رجلا حاجة : أي الفاقة والجوع.
الجفنة : الوعاء الكبير الذي يُقدّم به الطعام.
الرحا : الحجر الكبير الذي يُستخدم في طحن الحبوب.
التنور : الموقد.
تفاصيل القصّة جعل الله هذه الحياة الدنيا مليئةً بألوان المحن والبلايا ، والشدائد والرزايا ،
والتي يجريها سبحانه وتعالى على عباده امتحاناً واختباراً ، ولابدّ من هـذا
البلاء للكشف عن معادن الناس ، فيتميّز الصادق من الكاذب ، والمخلــص
من المدّعي ، والمؤمن من المنافق .
ثم أن سنة البلاء التي أقام الله عليهــا هذه الحيــاة فرصــةٌ مهمّــة لتربيــة
المؤمنيــن على مـواجهــة المصاعب والمتاعــب ، والإعــداد لتحمّـــل الآلام
والشدائد ، مهما كان نوعها أو بلغت شدّتها ، فلا تذهــب نفوسهم حسـراتٍ
مع كلّ فاجعة تصيبهم ، أو تجزع قلوبـهم أمام كــلّ محنــة تحــلّ بديارهـــم،
ولكن يواجهونها برباطة جأشٍ وثبات جنــان.
ومن شيم المؤمنين وأخلاقهم إذا نزل بهم قضاء الله وقــدره ، أن يلجــؤوا
إلى الركن الركين ، والحصن الحصيـن ، ويرفعــوا أكفّ الضــراعة إلـــى
خالقهم ، موقنين أن طول البلاء مؤذن بقرب الفرج ، وأن وراء كل محـنة
منحة ، ووراء كـــل مصيـبة حكمة .
ولعل القصّة التي حكاها النبي صلى الله عليه وسلــم مثــالٌ حـــيّ علـى
النفوس المؤمنة الصابرة ، الراضية الشاكرة ، المربوطــة بالله سبحانــه
وتعالى في أحوال الدنيــا وتقلّبــاتهــا ، فاستحقّــت بذلك حصـــول الفَــرَج،
واستيفاء الأجر ، على نحوٍ تظهـر فيــه عظمـــة الله وقدرتــه ، وحكمتــه
وتدبيـــــــــره .
فنحن أمام قصّة رجل مع زوجته ، عضّهما الفقـر بنابــه ، ونفد كــل مــا
لديهما من زاد وطعام ، فلم يجدا بُدّاً من الخروج إلى البرّية ؛ علّهما أن
يظفرا بشيء يصلح طعاماً لهما ، ويخفّف من جوعهما .
وطال البحث ، لكن من غيـر طائل ، إذ لم يجــدا شيئــاً ، فقامــت المــرأة
تناجي ربّها داعيةً أن يرزقهما شيئاً مــن الطحيــن يصنعــون بـــه خبــزاً
يأكلانه ، أو يمنّ عليهم بلحمٍ يطبخانه ، ولعلّــه لم يدر في خاطرهــا أن
يكون الفرج الإلهــيّ لهما آية عظيمة يتحــدّث بها التاريـــخ ، ويتناقلهــا
الناس إلى قيام الساعــــة .
عاد الزوجان إلى البيت ، فإذا بهما يريان عجباً : وعاء مُــلئ عجينــــاً،
ورحىً تطحن الحبّ من غير أن يحـرّكها أحــد ، وفــرن يفــوح برائحــة
الشواء ، فانقشعت عنهم الغمّة ، وظهـــر على محيّاهما البِشـــر .
وقام الرجل الصالح فكنس ما حول الرّحى من الطحين ، ولو ترك الأمــر
على حاله ، لاستمرّ الحجر في الدوران إلى يوم القيامة، كما أخبر النبي
صلى الله عليه وسلم في خاتمة القصّة .
وقفات مع القصّة عالجت القصّة بسياقها وأحداثها عدداً من القضايا، فقرّرت حقائق مهمّة،
وأرست مباديء قيّمة ، كـي يتربّى المسلم عليها ويعمـــل بمقتضاهـــا .
حيث تظهر القصّة في المقام الأوّل قدرة الله تعالى ليزداد المؤمنون إيماناً،
وليعلموا أن شواهد القدرة الإلهيّة لا تنقطــع عنهـــم آناء اللـيل وأطــراف
النهار ، يرونها بجلاء في كلّ ذرّة من ذرّات هذا الكون الفسيح ، لا يملك
أحدٌ إنكارها ، وقد تناولت نصوص قرآنيّة عديدة هذا الجانب مــن صفــات
الكمال الإلهيّ ، وإن مظاهر القدرة الإلهيّة في هذا الحديث بيّنة في تهيئة
الطعام والشراب للزوجين الصالحين من غير سببٍ ظاهر ، ومن خــــلال
الرحى التي كانت تطحن والقدر الذي يُطبخ من غير حاجة إلى أحــد .
كما تبيّن القصّة أيضاً أن الله سبحانه وتعالى يجيب دعاء المضطرّين ، حين
ينزل بهم البلاء ، وتحلّ بهم الهموم ، وتضيق عليهم السُبُل ، وتتخاذل عنهم
الأسباب إلا سبــب السماء ، كما قال تعالى ممتنّاً علــى عباده : { أم مــن
يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مـع الله
قليلا ما تذكرون } ( النمل : 62 ) .
وفي القصّة إثباتٌ للكرامات التي يجريها الله تعالى على يد عباده الصالحيـن،
وتكون مخالفة لما اعتاده الناس من نواميس الكون وسننه ، إكــراماً لهــم
وتأييداً لحالهم ، وقد تواترت نصوص الكتاب والسنّة على إثبــاتها ، وشــهد
التاريخ على وقوعها ، وإن حصرها فيمن استقام على شـــرع الله والتــزم
حـــــــــدوده .
وأخيراً : فعلى المؤمن أن يعظم رجاؤه بالله ، وثقته به ، واعتماده عليــه
فالفرج يحصل سريعاً مع الكرب ، والعسر لابد أن يعقبه اليسر ، كما قال
الله في كتابه : { فإن مع العسر يسرا * فإن مع العسر يسرا }
( الشـــــــــرح : 5 – 6 ) .